يوسف المساتي يكتب: حاربوا التفاهة ..لكن أي تفاهة؟
يوسف المساتي
يقود البحث في المعاجم العربية عن معنى التفاهة إلى الوقوف على تحديد مهم يقدمه ابن منظور في معجمه لسان العرب للجذر الثلاثي “تفه”، فهي ما “قل وخس … ورجل تافه العقل أي قليله… والتافه: الحقير اليسير، وقيل: الخسيس القليل. وفي الحديث: قيل يا رسول الله وما الرويبضة؟ فقال: الرجل التافه ينطق في أمر العامة”.
لكن في مقابل هذا الإسهال “الجماعي” في الحديث عن التفاهة ومواجهتها، قليلون هم من وضعوا الأصبع على معنى التفاهة
يعتبر هذا التحديد بالغ الأهمية بالنظر إلى السياق التاريخي الذي نعيشه، حيث كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن المحتوى التافه وانتشار التفاهة، ووجوب محاربتها، حتى غدا هذا الحديث شغل من لا شغل له، وكثر التنظير والتفسير، وأصبح مجالا لتصفية الحسابات الشخصية الدقيقة، وإفراغ الأحقاد الدفينة تجاه الخصوم، إذ يكفي أن يصف أحد الآخر بأنه تافه وأن محتواه تافه، كي يظن أنه يسفهه أمام أتباعه، وكأنه بذلك قدم لنا تأسيسا مفاهيميا أو كما يقول اشقاؤنا المصريون “جاب التايهة”.
لكن في مقابل هذا الإسهال “الجماعي” في الحديث عن التفاهة ومواجهتها، قليلون هم من وضعوا الأصبع على معنى التفاهة، واستبانوا وأوضحوا لماذا محتوى ما قد يعتبر تافها، بعيدا عن الشخصنة وإطلاق العنان للأحكام الجاهزة دون براهين، وتوزيع أحكام القيمة والآراء الانطباعية دون تدليل أو حتى استشهاد.
من وجهة نظر شخصية، فإن محتوى امي نعيمة وفتيحة وغيرها، تخاطب جمهورا معينا وفق مستواه ورؤيته، وبالتالي، هي تعبيرات اجتماعية وثقافية (بالمعنى الانثربولوجي للثقافة) لعملية صناعة التفاهة قبل أن تكون تفاهة في حد ذاتها، أي أنها نتيجة وليست سببا.
إن التفاهة الحقيقة وفق التحديدات المعجمية وحتى الفكرية (آلان دونو مثلا) ليست هي تصوير فيديو من قلب مرحاض أو حمام أو رقص بلباس داخلي أو غيرها من التعبيرات التي تملأ الشبكة العنكبوتية، ولكنها فيما يمارسه الكثيرون من تلبيس وتدليس وتغليط، والأهم من تسطيح.
إن نعيمة أو فتيحة وغيرهم ليسوا منتجين للتفاهة بقدر ما هم ضحايا لمن لا يملك في رصيده مشاركة علمية واحدة، ومع ذلك لا يتوانى عن تقييم نتاجات الآخرين العلمية بأحكام قيمة، دون أن يقدم نقدا واحدا للفكرة، ويكتفي بالشخصنة أو السب أو إصدار أحكام انطباعية دون استدلال أو استنباط أو استقراء، ما قد يكون اضطرابا نفسيا أو نوعا من الحقد الدفين على ما هو علمي ومعرفي، او تفريغا لإحتقانات وعقد نفسية، أكبر من كونه نقدا أو تشريحا.
إن التفاهة تتجلى فيمن يتطاول على التاريخ والجغرافيا ويعتبر أن الايغور توجد في كردستان قالبا بذلك كل جغرافية الكرة الارضية، ثم لا يتوانى عن اتهام كل منتقديه بالحقد وأنهم أعداء النجاح “مشرعنا” بذلك لما يمكن تسميته “بالسنطيحة المعرفية”؛ إن التفاهة هي أن يتصدى أحدهم لتحليل البنية المخزنية، وهو لا يميز بين البنيوية والبنائية كنظريتين مختلفتين فيتحدث عن البنيوية من حيث يقصد البنائية والعكس صحيح، أو يتصدى للسياسة وتحليل خطابات الملك، وهو غير مطلع على اختصاصات الملك الدستورية ولا على النص الدستوري.
ان التفاهة ان يتناول احدهم ملفات شائكة، وهو لا يميز بين المناوشة والمعركة والحرب، ويخلط بينهم بشكل فضيع، وتجده جاهلا بما توفره التقنيات الحديثة من إمكانيات لرصد مواقع الحروب وتموقع الجيوش وغيرها، حتى أن غوغل أوقفت خدمة غوغل ماب واورث في أوكرانيا بعد الهجوم الروسي على أراضيها حتى لا يتم تحديد أماكن الجيش الأوكراني من طرف الروس عبرها.
إن التفاهة الحقيقية هي التصدي للكتابة الأدبية دون علم بأبجديات اللغة المستعملة والقواعد الأولية لاستعمالها، أو أسس الكتابة الأدبية واتجاهاتها وتطوراتها، والاكتفاء باعتبار الكتابة هي صدى للنفس دون تمييز بين الكتابة كإبداع أدبي وفني وجمالي وفكري أيضا، وبين الكتابة كخواطر تعبر عما يضيق في النفس، ولا تصلح بالضرورة للنشر.
إن التفاهة الحقيقة لا تكمن في فيديوهات روتيني اليومي والأوت فيت، وإنما في فيديوهات بعض من يتصدون للشأن العام، وهم يمارسون التغليط والتدليس، قبل أن يفاجؤوك بتسول الجيمات والمشاركات والمشاهدات لجمع المال دون تقديم أي محتوى جدي، وفي نفس الوقت، يوجهون سهام نقدهم نحو كل دعوة لترسيخ الفكر النقدي، لأنهم على وعي أن الفكر النقدي من شأنه تعرية تفاهتهم وجعلهم عرايا أكثر من عري راقصات روتيني اليومي، ولن نبالغ إذا قلنا أن كثيرا ممن ابتلينا بهم هذا الوقت، لا يفعلون شيئا سوى ترديد خطابات الام فتيحة والخالة نعيمة والعمة سينا والجدة ساري كول مع تغيير الصيغة والنبرة أو اللغة فقط، ما هكذا تحارب التفاهة، بل تؤسس للرويبضات وفقط.
خلاصة القول، إن محاربة التفاهة لا تكمن في توزيع أصابع الاتهام على فلان أو علان دون سلطة أو حجة او استبيان، وهي قبول الاختلاف حين يخوض المرء في تحليل وابداء الرأي في مواضيع تهم الشأن العام، والالتزام بقواعد الحوار الاخلاقية والعلمية والمنهجية، والاستماع وتقديم النقد البناء حتى يتم الارتقاء بمستوى النقاش العام، والخروج من ثقافة الكلاشات وتضخم الأنا، التي تقود أحيانا إلى مواقف عجيبة من باب “اوهو طارت معزة”، وتساهم بشكل كبير في انتشار التغليظ والتدليس وتغييب الاستنباط والاستدلال،عن قصد وسبق علم، انتصارا فقط لصورة افتراضية خادعة.
إن من يحارب التفاهة لا يمكن إلا أن يساند كل فعل من شأنه الرفع من العقل النقدي، والتفكير العميق والتأملي والمركب في النظر إلى الأشياء والتعاطي مع القضايا، عوضا عن النظرات التنميطية الجاهزة والاختزالية، وقراءة ما أمكن والاطلاع على الجديد معرفيا فكريا، فلا يعقل أن يتصدى أحدهم للتحليل أو النقد أو حتى التدوين في مواضيع فلسفية وسياسية ومعرفية…الخ، دون علم لو بالقليل القليل مما كتب في الساحة الفكرية والمنهجية.
وأخيرا، إن صانع التفاهة هو من يغلط ويدلس ويزور ويجيش، ويخلق انحيازات تأكيدية، ويقذف دون دليل، بل فقط انطباعات وأحكام قيمية، تنهار ما إن تخضع لأول نقد وتمحيص، إن التفاهة هي العدو الأول للمعرفة وللحقيقة.
تدوزوا بخير