من هنا يبدأ الخبر

يوسف المساتي يكتب: تاريخ المغرب..اشتباك الإيديولوجي والتاريخي والديني والأسطوري

يوسف المساتي

لا زال تاريخ المغرب يبهر الباحثين منذ ما قبل التاريخ الى الان، ولازالت الدراسات تميط اللثام عن أسرار شتى، وما توالي الاكتشافات المرتبطة بفترة ما قبل التاريخ، الا دليل على ذلك، من هنا تبدو دراسة علم الاثار بما يوفرها من عدة علمية ومنهجية مدخلا اساسيا لتفكيك وإعادة بناء تاريخ المغرب.
لكن علم الاثار وحده لا يكفي، فهذا التاريخ من التنوع والتعقد، ما يستلزم رؤى عابرة للتخصصات، قادرة على الجمع بين الدراسة المادية والوثائقية والرمزية والتأويلية وغيرها، ولعل اول ما يجب ان تقوم به إعادة النظر فيما قدم إلينا على انه احداث او حقائق تاريخية (لا اود الدخول فيما تطرحه الدراسات المعاصرة من اسئلة حول مفهوم الحدث والواقعة والحقيقة التاريخية)، ومراجعة كل المسلمات خاصة الكولونيالية منها.
ولعل من أمثلة هذا التعدد ما يطرحه تاريخ مدينة فاس، والذي يكاد يرقى إلى أن يعتبر من المعلوم من التاريخ بالضرورة، فالسردية الرسمية هي الطاغية، لكن التمحيص والنقد يضع كثيرا من الاسئلة، إذ تقود دراسة المصادر النصية التي أرخت لمدينة فاس، ورصد تمرحلها التاريخي (إذا ما استعرنا مفهوم مهدي عامل)، إلى تقسيمها لمرحلتين أساسيتين:

المرحلة الأولى: مصادر ما قبل الفترة المرينية:

من خلال تجميع الشذرات المصدرية حول فاس خلال هذه المرحلة (أقدمها ترجع للقرن الثالث الهجري عند الجغرافي “ابن خرذابه”(توفي سنة 272 هـ/885) في كتابه المسالك والممالك) فسنجد أن التأريخ لمدينة فاس لم يحظ بأهمية كبيرة من طرف المؤرخين والجغرافيين، إلا في مراحل متأخرة. بل وكلما ابتعدنا زمنيا عن الفترة المرينية، واقتربنا من الفترة الادريسية يغيب اسم فاس، أو يتضاءل على الأقل، ولا يحضر بنفس التصور الذي قدم إلينا في المصادر اللاحقة، وهو ما يطرح أكثر من سؤال حول مدى أهمية المدينة، خلال المرحلة ما قبل المرينية.
نلاحظ أيضا غياب الإشارات التي تتناول قصة تأسيس المدينة، رغم أنه يفترض ان المصادر المتقدمة أكثر إلماما بتاريخ المدينة، إلا أننا نجد العكس، إذ لا نعثر إلا على بعض السطور القليلة التي تنسب الأمر لادريس الثاني، بينما نصوص أخرى ترجعها لإدريس الاول، وهي إشارات يطبعها التضارب وغياب الانسجام.

هيمنة رؤية بطولية احتل فيها ادريس الثاني مركزية مطلقة، باعتباره كان صاحب الأثر الحاسم في توجيه الفعل التاريخي (بناء المدينة وعمرانها)

من الملاحظات الأساسية أيضا، اللبس الذي يطبع وضع المدينة ونمط العلاقة داخلها وبين عدوتيها، إذ أن قراءة النصوص المختلفة تدفع إلى القول بوجود علاقة مضطربة بين العدوتين، أو على الأقل مناخ متوتر، وهو الامر الذي نجد صداه في مراحل لاحقة أيضا، وإن كانت على نحو محتشم.

المرحلة الثانية: المصادر المرينية وما بعدها

لا يمكن الحديث عن هذه المرحلة دون ربطها بالسياق العام، إذ أن انطلاقة كتابة تاريخ المغرب، لم تنطلق إلا خلال الفترة المرينية (أزيد من خمسة قرون بعد تاريخ وصول إدريس الأول إلى المغرب حسب السردية السائدة)، وقد كان من الطبيعي أن يتم التركيز على تاريخ فاس باعتبار حاجة بني مرين لدعم البرجوازية الفاسية (علاقة البرجوازية الفاسية بالتجارة الخارجية في افريقيا واوروبا والبحر الاحمر تشكل معطى اساسيا في فهم الأمر، اكثر من المعطى الداخلي).
هكذا إذا لم يشكل كتابا “الأنيس المطرب بروض القرطاس” لأبن ابي زرع الفاسي، و”جنى زهرة الآس” للجزنائي، مجرد محاولات لتدوين تاريخ المغرب او تاريخ المدينة، بل كان تأسيسا لسردية تلبي احتياجات السلطة القائمة، وتدليلا على مشروعية هذا التأريخ يرجع ابن ابي زرع أو الجزنائي مصادر روايتهما لمجموعة من الرواة والمؤلفين والحفاظ دون ذكر اسماءهم.
شكل هذان الكتابان إذا الإطار المرجعي الذي نهلت منه معظم الكتابات التاريخية اللاحقة، كما نهلت منه أيضا كتب التراجم، والمناقب والأنساب المتأخرة، ليتحول تاريخ المدينة (بل والمغرب ككل خلال هذه الفترة) إلى تاريخ سكوني واجتراري، يكرر نفس السردية، اعتمادا على نفس الروايات والتصورات، ويمكن أن نرصد أبرز ملامح تاريخ فاس آنذاك في:
-هيمنة رؤية بطولية احتل فيها ادريس الثاني مركزية مطلقة، باعتباره كان صاحب الأثر الحاسم في توجيه الفعل التاريخي (بناء المدينة وعمرانها)، لتتفرع عنه شبكات وتمفصلات من العلاقات، جعلت تأريخ المدينة، وكأنه سجل مناقبي للبطل الأصلي وسلالته (الأدارسة) وتحاط بهالة من القداسة أو “الشرف”.
-سيادة خطاب يمتح من البعد العجائبي، المستند للخوارق والمعجزات، سواء المرتبطة بالأدارسة أو بمدينة فاس؛ إذ امتزج تاريخ فاس بالأسطورة في هذه المرحلة، وأصبحت بفضل بركة الشريف، أو الإمام، قائمة عامرة، ضدا على كل محاولات اقبارها (سواء من طرف البشر أو الطبيعة)، لقد حفظت “بركة الشريف ادريس” المدينة بالقدر نفسه الذي حفظت به جثته قرونا بعد وفاته، حتى عثر عليها في الفترة المرينية سليمة، (حسب الروايات التاريخية) هكذا إذا تصبح البركة متعالية على التاريخ، بل صانعة له.

اغفال الهوامش: لقد تجاهلت أو الأصح قللت مصادر هذه المرحلة من شأن كل ما يمكن أن يشوش على هذه السردية، فتم التنقيص من الدور الذي لعبته وليلي والعصبية القبلية لأوربة في قيام “إمارة الأدارسة”، بل وتناقضت المصادر مع الوقائع، فلم يتم نقد الورايات التي تشير لوجود ضريح ادريس الثاني بوليلي أو بزرهون، في مقابل ترسيخ رواية المجذوب الذي راى حلما يخبره بمكان جثة ادريس الثاني.

طال التهميش الامارات الموازية لامارة المغرب، فالنصوص تؤكد أن الأدارسة لم يكونوا بالحجم أو التصور الذي نقدمه السردية الرسمية، همشت إذا في هذه الرواية برغواطة وبنو الصالح، وكتامة الغرب، وغيرها من الإمارات، التي أصبحت هامشية، رغم الأدوار الأساسية التي لعبتها.
….
إن تاريخ المدينة وعلى غرار جزء كبير من تاريخنا، تداخل فيه الايديولوجي بالتاريخي وامتزج بالأسطوري والديني، فقدما شبكة من التمفصلات والعلائق المعقدة، لا يمكن فهم تاريخ المغرب (وحاضره أيضا) دون إعادة تفكيكها.

يتبع

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط