في حوار مع “إخباري”..الاستشاري والخبير النفسي عادل الحسيني يفكك ظاهرة الانتحار
حــــاوره خالد بوخش
و لأن ظاهرة الانتحار تفاقمت في الآونة الأخيرة، ارتأت جريدة “إخباري” إجراء حوار تفصيلي لاستكناه أسباب و دواعي هذه الظاهرة من وجهة نظر نفسية، مع الاستشاري النفسي و مؤسس مركز سند للدعم النفسي عادل الحسني.
إخباري : مرحبا أستاذ عادل، ماذا يعني ” الانتحار ” بالنسبة إليك؟
الحسيني : هذه الظاهرة التي تبدو فردية، وتبدو اختيارية وتبدو نفسية ، و هي في الواقع وحسب احصائيات منظمة الصحة العالمية، تتولد بين القابلية الفردية والثقافة الاجتماعية، وبين ضغط المجتمع واضطرابات الشخصية، وبين تراكم الدافع نفسي كما يمكن أن يكون الدافع من حفزات فيزيولوجية وراثية.
نميل غالبا أمام الموقف المفزع لأن ينهي شخص حياته، إلى التفسير المشفق أو اللوام، لكن إعطاء الوقت الكافي للملاحظة والتحليل اعطاني خلاصة مفادها:
فعل الانتحار هو لحظة ناتجة عن إحساس يتماهى فيها الشخص مع مشكلته، يصبح هو المشكلة التي لا تحل، ويضع نفسه كلها في المشكلة إما عبر الإحساس بالذنب أو الإحساس باستحالة حل المشكلة وبالتالي إحساسه بضغط دافع الموت.
إنه ضغط يتشكل من فارق الحاجة/الرغبة وبين الأمل/ الحل، الحاجة لتحقق أمل ما، في مقابل أن ينتج إحباطا يضع صاحبه تحت ضغط الإحساس باللاجدوى في وقت يحس بإلحاح شديد لإنهاء ذاته التي تماهت مع الحاجة لحل المشكلة. فينتج عن عدم القدرة على حل المشكلة، عدم قدرة على تحمل الوجود مع استمرار المشكلة.
بالخلاصة هناك تعبير واضح عن نزوع الفرد نحو إنهاء حياته: تراكم الإحساس الرهيب بالأزمة!
فعل إنهاء الحياة هو المرحلة الأخيرة من تراكم نشاط غريزة الموت، مثل ما تعنيه إرادة الحياة نفسها حيت تتدفق، لكن في اتجاه إرادة تنسحب بصاحبها من رغبة العيش، إرادة نحو العدم، دافع ناتج عن الفارق بين اثارة قوية للحياة وبين الحرمان القاسي منه ..
كل التحليل السابق يمكن إلغاؤه في حالات الاضطرابات العقلية الوراثية وهي قليلة، ومن المؤسف أن نجد هذا الانتشار للتشخيص المتسرع لها إعلاميا.
اليوم يحاول المعالج إكساب المستفيد الفهم الدقيق لتفاعل نفسيته في واقع معقد ويتغير بسرعة.
إخباري: هل فعلا ظاهرة ” وضع حد للحياة” انتشرت في الآونة الأخيرة مقارنة بالأزمان الغابرة؟ و إن كان الجواب بنعم؛ لماذا في نظرك؟
الحسيني : لم أطلع بعد على تاريخ إحصائيات تأخر بالأرقام إيقاع ممارسة الانتحار، غير أن وجوده كان واضحا جدا، وواضحة الكتابات الأدبية والدينية التي تحكي عن تفاصيله ومقدماته والدرجات التي تسبقه من انسحاب عن تفاصيل الشغف بالحياة، وفي اعتقادي أن الانتحار تكثف في فترات الأزمات الصحية والمجاعات والحروب وتقلص في فترات الاستقرار والرفاهية.
غير أن العصر الحالي، منذ نشأة عصر الحداثة إلى تركز تأثير النزعة التسويقية لكل شيء، وربط كل المنتجات والخدمات بالاحساس النفسي بالارتياح والاستقرار، وترسخ قاعدة أن منتجا أو خدمة معينة تعني حياة أفضل والتخلي عنها أو عدم توفيرها سيعني أزمة، فأصبح الانسان المعاصر يعيش إحساسا بأزمات وجودية من غياب أشياء كانت تعتبر غير أساسية أو كمالية.
في فترة التسعينات من القرن السابق وبداية هذا القرن مثلا، كان رب الأسرة يعاني ضيقا أو إحساسا مؤلما بالذنب تجاه أسرته إذا لم يوفر تلفازا أو تعليما مدفوعا، هذه الأمور تخفف تأثير غيابها بعد تطور الاستهلاك وتراجع قيمة التعليم الخاص.
غير أن الملاحظ لتتبع هذه الظاهرة يلاحظ ارتباطها الوثيق بتعقد طبيعية العلاقات الإنسانية، فانعكاس تأثير الأزمة الأودبية لأطفال جيل سنوات السبعينات إلى التسعينات على علاقاتهم في البلوغ ، مختلف بتمظهر كبير عما نلاحظه في جيل مابعد الألفية الجديدة، فيمكن لطفل قد يواجه الإحساس المؤلم بالرفض بعلاح ذلك في ألعاب الانترنت مع اناس حقيقين يتبادل معهم مشاعر الاعتراف والتقدير ولكن في فضاء افتراضي قد ينقطع، ويخلق مع هذا الانقطاع إحساس بأزمة قد تتجور لدافع نحو انهاء الحياة، نحن إذن أمام بنيات اجتماعية تواصلية مغلقة في جانب ومنفتحة في آخر ، تسرع من تشكيل بنية الأزمة الخانقة التي تدفع لايذاء الذات والانسحاب أو العيش.
في السابق كان المعالج يحاول تحفيز المستفيد لقبول الواقع كما هو ليقلص مكانيزمات رفض الحياة، اليوم يحاول المعالج إكساب المستفيد الفهم الدقيق لتفاعل نفسيته في واقع معقد ويتغير بسرعة. لذلك فتزايد حالات الانتحار مقترن بفهم مواكب لتطور التفاعل مع الواقع الحقيقي و الافتراضي للعلاقات.
فمجرد الإحساس القاسي بالتفاوت حين نتابع حياة الرفاهية في تطبيق الانستغرام قد يقوي دافع الموت تجاه شخص لايوفر ذالك لنفسه أو لمحبوبته أو أولاده، واللوم هنا لا يقع على موقع التواصل الاجتماعي بقدر ما يقع على محدودية حلول التفاعل مع التفاوتات، فعدد من الاشخاص يجدون في تتبع قصص النجاح الواقعية محفزا للحياة.
إخباري: ما نوع الشخصية التي تنزع إلى هذا القرار؟ ( قرار وضع حد للحياة)؟
الحسيني : بغض النظر عن أوقات الأزمات العامة، وفي وقت الاستقرار الاجتماعي، هناك نزوع للفعل، وهناك نزوع لإعلان الفعل، في الحالة الأولى التشخيص الطبي يقدم العلاج الدوائي الكافي ولايصبح هنا الحديث عن شخصية ذات سمة معينة، أنها انتحارية إلا اذا تم إهمال تناول الدواء، سواء في حالات مؤقتة أو دائمة.
في الحالات العصابية وهي طبيعية، حالات الإعلان عن الفعل أكثر بكثير من حالات الفعل، و حتى في الحالات الشخصية الحدية التي تؤذي نفسها، من النادر عن يقع فعل الانتحار.
في تصنيف جاك لاكان للاضطرابات، هناك حالات الهيستريا والوسواس والانحراف، وهي تتقاطع مع تصنيفات الطب النفسي والمنهج السلوكي المعرفي في نقطة مهمة وهي؛ أن النزوع بالفعل أو الاعلان للانتحار هو درجة متطرفة من الإحساس بانعدام فعالية الحلول المتاحة، أريد القول في هذا السياق أن التساؤل حول مدى فاعلية الحلول التي تواجه المرء في أزماته أهم من التساؤل إن كان هو من النوع الذي ينتحر بسهولة.
الذين يعلنون عن كونهم سينتحرون ولايفعلون ذلك، لا يقصدون التلاعب أو جلب الانتباه، التلاعب أو جلب الانتباه هي أهداف ثانوية بالقياس إلى التعبير الأقوى؛ التعبير عن انحباس كل قدرات هذا الشخص للاستمرار في محاولة التعامل مع مشكلته.
فإذا كان الحديث ضروريا عن نوع الشخصية التي تنزع للانتحار فعلا أو تعبيرا، فيجب الحديث عن الشخصية التي تستفيد من هذا التفكير والمحاولة الانتحارية كدرس قوي لاستمرار الحياة، ويكون درسا لفهم الأزمة قبل تخطيها، إنه أقوى وآخر دروس قبول نزعة البارانويا الموجودة حتما داخلنا، وتعقينا عن فهم معقيات التقدم في الحياة داخل عقليتنا، والتي تتميز بالاستمرار بعقلية الضحية والإحساس بالاستحقاق المتضخم وعقلية المؤامرة. وهذه ليست سمات تعيب الإنسان فهي دفاعات ساعدتنا للتكيف في مراحل مبكرة من حياتنا، لكنها في عمر النضج تعبر عن لجوء لاواعي لحلول الطفولة ومتخيلاتها.
إخباري: هل هذه الظاهرة تأتي حتميا من خلال المعاناة؟ أم أن الأمر قد يتجاوز ذلك؟
الحسيني : كلما اشتدت الأزمة على الإحساس بالمسؤولية اقترب الإنسان من التفكير الانتحاري، بتدرج يبدأ بنوبات الغضب والحزن والانسحاب، وقد ينتهي التعامل مع هذا الإحساس بنوبة إيذاء الذات، لذلك فالجدية تقتضي التعامل مع الإشارات الأولى.
ويتجاوز الأمر ذلك إلى وجود قابلية للتفاعل بجدية ومسؤولية تجاه ضغوطات بسيطة في الحياة أو حتى الدخول في معارك وصراعات تنتهي بدفع الذات للهلاك.
على سبيل المثال أعتبر القابلية السريعة لوقوع عينة من الأشخاص المناضلين الثقافيين أو النسويات أو الأقليات الدينية والجنسية والاجتماعية في التفكير بالانتحار هو نزوع مبني عن تضخم في قابلية التعامل الجدي مع الصراعات، و تحتاج هذه العينة لدعم نفسي يهدف لإعادة تقدير حجم وخطورة التهديدات، وعزلها عن التضخيمات القلقة والاكتئابية.
أميز في هذا المثال بين الإحساس المؤلم وهو حقيقي، وبين واقع الضغط الموجود على هذه الفئات. وتصحيح الرابط بين الإحساس ومصدر الاحساس يحقق التخفف النفسي.
إخباري: في زمن العولمة هذا؛ قد يتأثر الشباب برؤى فلسفية و فكرية يستلهمها بوعي أو بدونه من الإعلام الذي أصبح عالميا الآن؛ هل هذا له تأثير على تفشي الظاهرة؟
الحسيني : الأفكار الانتحارية ما دامت تنشأ من الإحساس بالأزمة، فستجد لنفسها المبررات الايديولوجية في الفلسفة والفكر وحتى الدين رغم أنه يرفض الانتحار.
التفكير الاكتئابي، وهو تفكير يحرص على تصوير الحياة كمجال للعذاب النفسي، ينتقي من المنظومات الفكرية أو أنه يبدع منظومات تبرر الفعل أو تدفع له، بل وقد يجد منفذا للتعبير عن نفسه حتى في الخطاب الديني والخطابات التي تنبذ الانتحار، مثل ما نراه في الفعل المتطرف للهجمات الإرهابية. وسواء الأفكار من عندنا، أو من الفلسفات الغربية التي تحظى بالانتشار وإعادة العرض الإعلامي المستمر، تظل القابلية هي التي تعيد إنتاج المادة العدمية الانتحارية، إلا إذا استثنينا الدعوات المباشرة للموت وهي محدودة جدا.
إخباري: نفسيا؛ هل هناك أنواع شخصيات تنزع إلى هكذا قرارات؛أم أن البيئة هي التي تتحكم و لها الدور الأساس؟
الحسيني : تنشأ الأزمة المسببة في التفكير الانتحاري من صدام الرغبة/الحاجة مع الواقع، والواقع يمكن أن ويكون اجتماعيا أو بيئيا أو ذاتيا (الفيزيولوجيا الهرمونية أو إعاقة ذاتية)
مصدر نشأة قرار الانتحار هو الاختناق النفسي الذي ينشأ من الإحساس بالفرق بين الرغبة/الحاجة وبين استحالة تحقيقها.
يمكن أن ينشأ التفكير في الانتحار من دون سبب مباشر واضح، وهذا يعني ضرورة تحليل التراكم النفسي الاكتئابي، مع التأكد من حدوث خلل في افرزات الدماغ الغير مبررة في تفاعل الفرد مع واقعه.
إخباري: ما هي الميكانيزمات العقلية و اللاواعية التي تتحكم في مثل هذه الشخصيات؟
الحسيني : تحدثت سابقا عن نزعة البارانويا التي هي موجودة بنسبة ما في كل واحد منا، وهي تحجب رؤية الواقع كما هو وتمنع تقبله.
وأيضا، يمكن الحديث عن تغلب نفسية العبد في مقابل ضعف نفسية السيد بالمعنى النتشوي، فنفسية العبد تنحر بالذات نحو وضع نفسها في التدمير تخت عناوين أخلاقية رفيعة، في مقابل السيد الذي يضع نفسه في النمو والتقدم بالتركيز على حسابات الربح والخسارة بواقعية.
إخباري: ما هي البدائل التربوية و المؤسساتية( خصوصا أن هناك نقص كبير مؤسسساتيا في هذا المجال)من أجل الحد من هذه الظاهرة؟
الحسيني : مبدئيا يجب تعزيز ثقافة حب الحياة بواقعية، تلقين فنون العيش في ظروف محدودة الموارد، والتربية على فهم واقع العلاقات الإنسانية مبكرا.
النقاش التربوي في هذا الموضوع يجب أن يكون منصبا في المضمون النفسي لا في الشكل النهائى الذي يجب أن يكون عليه أبناؤنا.
من المنصف القول أن تعليم اللغات والعلوم هي أدوات عيش تجعل الإنسان يخفف من ضغوط الحياة وتجنبه التفكير الاكتئابي، لكن الفهم العميق المبكر للنفس البشرية والعلاقات العاطفية وتعلم التعامل مع الصراع الاوديبي والنزعات المدمرة يجعل ذهن الفرد والمجتمع متيقظا أكثر للمضيقات النفسية الوهمية قبل اجتياحها لنفسيته.
كلمة مفتوحة أخيرة أستاذ عادل ؟
من السخف أن نطلب من إنسان عدوله عن التفكير الانتحاري بعظة أو توجيه أو تحفيز ما، سنموت حقا في الأخير، فعلى الأقل يجب أن نموت لأسباب غير متوهمة، ونموت ونحن منفصلون عن ظرف عابر مهما كان قاسيا.
إذا كانت ثمة فكرة قوية لثني شخص عن الانتحار، أظنها هي الاستسلام لظرفه الذي يدفعه لذلك حتى ينفصل عنه، فالتسليم بروح رياضية لخسارة حبيب أو عمل أو شيء ذا قيمة كبيرة ، صعب وقد يطول لفترة، لكن يمكن من استعادة الذات لتملك مصيرها.
والإحساس باللاجدوى لايستدعي البحث عن المعنى في فكر ما لاستعادة التعلق بالحياة، فذلك سبعيد القصة الحزينة، الإحساس باللاجدوى هو احتجاج ورفض لاواعي للحياة، وتحديد ما خسرناه وقبول الخسارة يجعل كل التفاصيل الجديدة التي نتعامل معها يوميا ممتعة ونتفاعل معها بشغف الاستمرار بالحياة.
قبول الموت والتهييء لنهايات هادئة، نهايات الحب والصحة والحياة يعطي معنى أجمل اليوم للاستمتاع بحياة بمعزل عن الفزع من المستقبل .